نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بين الحجون وغيلما.. رحلة إياب الروح - الهلال الإخباري, اليوم الاثنين 5 مايو 2025 06:19 صباحاً
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
في هذه الرحلة الاستثنائية لي عقب سنوات غياب طويلة، وانشغال بمطاردة الأحلام التي لا نمضي خطوة في اللحاق بها، إلا وكان فيها ابتعاد عن الروح..
ها أنذا أعود إليك يا مكة، الرّحم الذي انطلقت منه للعبور إلى برزخ الحياة، عدت إليك بعد شوق لأزقتك التي ولدت فيها أحلامي، وإلى شوارعك المضاءة بنور التنزيل وخشوع المصلين وتلاوات الليل.
عدت إليك لاستعادة روحي وترميمها عند الملتزم، وللتضلع من ماء زمزم لشفاء أسقام نفسي، وللوقوف على أسوار المعلاة للسلام والدعاء لوالديّ، ولأعز خليلين استودعتهما ثراك الطاهر، العزيزين عمر المضواحي وهاني نقشبندي نزيلا المعلاة، أسأل الله أن يغدق عليهم جميعا رحماته وأن يسكنهم فسيح جناته.
مضت بي رحلة الابتعاد عن أم القرى كعدوس ليل اعتقد أن طريق إيابه وقت ما شاء قريب متى عنّ ذلك له، دون أن يعي أن ذلك الابتعاد وطول الرحلة لم يكونا سوى رحلة تيه وتغرب عن الروح الأولى التي كانت زاد سفر سيتآكل مع الوقت حتى ينفد، الساعة التي يدق فيها جرس الإنذار الذي يأتي فيه الداعي والنذير الذي يخبرك أنك ابتعدت عن منازل روحك التي لا تعوضها قصور الحياة ولا القناديل المعلقة فيها.
عدت، وقفت على الأطلال واستنطقت الأمكنة واستعدت الأزمنة، ومررت على منازل الطفولة وحدائق الصبا، وتعقبت ظلالي، حتى أنعشت ذاكرتي بروائح مكة وطيبها وأطعمتها وأشربتها، بمسك الحجر الأسود وبإذخر الأودية، وجرار الفول المكي وخبزها الذي سكن الذاكرة، حتى اعتقدت لوهلة أني لم أغادرها قط، وأن ما كنت فيه لأكثر من عقدين فارقتها فيهما، لم يكن سوى حلم استفقت منه للتو.
وكنت مثل ابن بطوطة، الذي سئم المناصب والمراتب، والقصور والحدائق، ليدشن رحلة إياب إلى بلدته طنجة مكتفيا من الغنيمة بالإياب تاركا الدنيا والوجاهة خلفه، لاستعادة روحه التي تغربت عنه.
وقبل أشهر تبدت لي مكة في النوم، إذ دخلت صحن الحرم، وأجلت النظر في الكعبة المشرفة وإلى صحن الطواف وأعمدة الحرم، وكان ثوب نور قشيب مهيب قد تجلى على المشهد الجميل، الذي لم أكن أعلم أنه حقيقة حتى وقفت عليه، إذ رأيت بعيني ما كنت أحسبه حلما فإذا به حقيقة، ومن لم يعرف مكة التي عرفت، قد يصعب عليه إدراك ما أصبحت عليه اليوم، بعد مشروع الحرم الجديد الذي تجاوز مفهوم التوسعة كثيرا، إذ هو في الحقيقة إعادة بناء كامل للحرم الذي أصبح أضعاف أضعاف ما كان عليه.
رأيت أم القرى، وقد كساها البهاء والروعة من كل ركن، بعد أن أصبحت بفضل اهتمام خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الذي يشرف على هذا العمل بفضل رؤيته الاستثنائية للحرمين الشريفين، أصبحت اليوم من أذكى مدن العالم، وأكثرها استشرافا للمستقبل بنية وتنظيما وتخطيطا، وفي القريب ستستوعب جبالها الضيقة ملايين الزوار على مدار العام بعد أن ضاقت بهم في السابق بفضل أعمال التوسعة العملاقة التي شملت كل ركن من أركان المدينة المقدسة.
ومنذ وطأت قدمي الحرم الشريف، وقبل أداء العمرة، رأيت مهارة وفن إدارة الحشود في الحرم، بعد أن كانت أبواب الحرم في السابق مشرعة للدخول والخروج من المعتمرين وغيرهم من الزوار، أصبح ذلك غير متاح اليوم، بعد أن أصبح دخول المسجد وصحن الحرم من بوابات ذكية محددة تعمل عبر أجهزة استشعار يمنع دخول غير المعتمرين إليها، وأصبح الذكاء الاصطناعي يحكم كل حركة، فيعطي الإحصاءات وينذر بأوقات الازدحام والذروة، ما مكن السلطات من توجيه الحشود داخل الحرم وخارجه، وصولا إلى الطرق التي تؤدي إليه.
أم القرى اليوم اسم على مسمى، ففضلا عن قداستها، جعلتها أعمال البناء والتشييد وفنون الإدارة التي أصبحت واجهة لها، منارة حضارية ومثالا في الرقي والتقدم والراحة والطمأنينة لزوارها وقاصديها. وكان لسان حالي أني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ولما غادرتك أبدا.
oumar_alansari@
أخبار متعلقة :