نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
البديل الفيدرالي - الهلال الإخباري, اليوم السبت 5 يوليو 2025 11:21 مساءً
يُعدّ الاتحاد الأوروبي من أكثر التجارب السياسية تكاملاً في التاريخ المعاصر، حيث جمع بين دول ذات خلفيات ثقافية واقتصادية وعرقية متنوعة، ضمن إطار مؤسسي مشترك. وقد نجح هذا المشروع في تجاوز صراعات الماضي وتأسيس سوق موحدة وسياسات مشتركة، إلا أن مسيرته لم تخلُ من التحديات، لا سيما في ما يتعلق بآليات الحوكمة واتخاذ القرار بين الدول الأعضاء.
يشكّل كتاب «نحو بديل فيدرالي لحوكمة الاتحاد الأوروبي» مساهمة فكرية وسياسية بارزة في النقاش المتجدد حول مستقبل أوروبا، ويطرح تصوراً نقدياً لمسار التكامل الأوروبي منذ بدايات القرن الحادي والعشرين. يحلل الكاتب الإخفاقات المتكررة في إدارة الأزمات، ويقترح نموذجاً مؤسسياً بديلاً، يسعى من خلاله إلى إعادة ضبط العلاقة بين الحكومات الوطنية ومؤسسات الاتحاد فوق الوطنية.
إخفاقات الحوكمة بين الدول
ينطلق المؤلف من واقع سياسي شديد التعقيد شهدته أوروبا منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، والتي تسببت في تداعيات واسعة على منطقة اليورو، تبعتها أزمة الديون السيادية، ثم موجات الهجرة، وجائحة كوفيد-19، وصولاً إلى الحرب الروسية في أوكرانيا. يرى فابريني أن هذه الأزمات، رغم اختلاف طبيعتها، كشفت جميعها عن محدودية النموذج الحكومي البيني (Intergovernmentalism) الذي أصبح يطغى على آلية صنع القرار في الاتحاد.
بحسب فابريني، تبلور هذا النموذج الحكومي من خلال المجلس الأوروبي، الذي يضم رؤساء الدول والحكومات، والذي أصبح في الواقع المؤسسة المركزية لإدارة الأزمات. هذا الهيكل، الذي يهدف إلى تمثيل سيادة الدول، أدى عملياً إلى غلبة المصالح القُطرية على الاعتبارات الأوروبية العامة، وتسبب في بطء اتخاذ القرارات، وتضارب السياسات، وغياب المساءلة أمام الشعوب.
في هذا السياق، ينتقد فابريني غياب قاعدة دستورية مشتركة تضمن وضوح الصلاحيات وتقسيم الأدوار بين المؤسسات المختلفة، معتبراً أن ما يسميه «الشرخ المؤسسي» بات يُضعف قدرة الاتحاد على التصرّف ككيان سياسي موحد. فالمفوضية الأوروبية، رغم مكانتها كجهاز تنفيذي فوق وطني، كثيراً ما تجد نفسها رهينة لمواقف الحكومات الوطنية. أما البرلمان الأوروبي، فرغم انتخابه من قبل الشعوب، يفتقر إلى سلطات تنفيذية حقيقية.
الأزمات كاختبار للبنية المؤسسية
يدعو المؤلف إلى تجاوز هذا الانسداد البنيوي من خلال اعتماد نموذج «الفيدرالية متعددة المستويات»، الذي يُعيد توزيع السلطات بين مستويات الحكم المختلفة: الاتحاد، والدول، والمناطق. هذا النموذج، كما يشرحه فابريني، لا يطمس السيادة الوطنية، لكنه يعيد تعريفها ضمن إطار تكاملي مرن، يُمكّن الدول من حماية خصوصياتها، مع الالتزام بمصالح الاتحاد العليا في مجالات استراتيجية مثل الاقتصاد والطاقة والدفاع والبيئة.
ويؤكد فابريني أن الحاجة إلى إصلاح الحوكمة باتت ضرورة سياسية لضمان بقاء المشروع الأوروبي نفسه. ففي ظل صعود النزعات الشعبوية، وتراجع ثقة المواطنين بالمؤسسات الأوروبية، واحتدام المنافسة الجيوسياسية العالمية، لم يعد مقبولاً أن يبقى الاتحاد عاجزاً عن تقديم استجابات سريعة وفعالة.
يعلّق قائلاً: «لا تتساوى كل الأزمات، فهي تختلف من حيث طبيعتها، وحجمها، و«بنيتها الإدراكية». فعلى الرغم من أنها تعكس ظواهر تجريبية، فإن الأزمات تُبنى عموماً بواسطة تشكيلات من الفاعلين السياسيين الذين ينجحون في تعبئة أفكار تتماشى مع مصالحهم أو رؤاهم. في سياق الاتحاد الأوروبي، يتم تحديد بناء الأزمة بواسطة ثلاثة عوامل رئيسية. أولاً، من خلال تخصيص صلاحيات المعاهدات للتعامل مع الأزمة. فالأزمات التي جرت في العقدين 2010 و2020 والتي نُوقشت في الكتاب (أزمة الديون السيادية، أزمة الجائحة، وأزمات الطاقة والمساعدات العسكرية الناتجة عن الحرب الروسية) انفجرت في مجالات سياسية كانت للحكومات الوطنية فيها أولوية قانونية على المؤسسات فوق الوطنية من حيث الصلاحيات. ما قاله بوجار وكريسي صحيح، وهو أنه «في ظل ظروف أزمة تتسم بالإلحاح العالي وعدم اليقين، من المرجح أن تصبح صناعة القرار التنفيذي هي نمط وضع السياسات». ومع ذلك، لأنه «في النظام متعدد المستويات في الاتحاد الأوروبي، تنطوي صناعة القرار التنفيذي أساساً على المفوضية الأوروبية، والمجلس الأوروبي، وحكومات الدول الأعضاء»، فإن الأزمات التي تم تناولها هنا أعطت الأولوية لتحرك المجلس الأوروبي والحكومات الوطنية بدلاً من المفوضية».
نحو تصور فيدرالي مرن
يعالج هذا الكتاب، الصادر باللغة الإنجليزية عن مطبعة جامعة كامبريدج في ديسمبر(كانون الأول) 2024 ضمن 272 صفحة، في فصوله المختلفة، عدة أزمات جوهرية ضربت الاتحاد. ففي الفصل الثالث، يناقش المؤلف أزمة الديون السيادية التي هزّت الثقة في منطقة اليورو، مبرزاً كيف أن غياب سياسة مالية موحدة أدى إلى تفاوت شديد في الاستجابات الوطنية، زاد من هشاشة الوحدة الاقتصادية. وفي الفصل الرابع، يتناول تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث يبيّن الانقسام بين دول شرقية تنظر إلى روسيا كتهديد وجودي، وأخرى غربية تميل إلى تغليب الحوار والحلول الدبلوماسية، ما يطرح تساؤلاً حاسماً حول جدوى الحديث عن سياسة خارجية أوروبية موحدة.
ومن خلال مقارنة، يسلّط فابريني الضوء على تجارب فيدرالية راسخة مثل النموذج الأمريكي، والألماني، والسويسري، ويستخلص منها دروساً يمكن توظيفها في السياق الأوروبي. وهو يشير إلى أن هذه النماذج استطاعت الجمع بين التعددية السياسية والثقافية، وبين وحدة القرار والتنظيم المؤسساتي، ما يدل على أن الفيدرالية ليست نقيضاً للديمقراطية أو السيادة، بل هي إطار عقلاني لتنظيم التعايش المشترك.
وفي هذا الإطار، يطرح المؤلف فكرة «النواة الفيدرالية»، أي تشكيل مجموعة من الدول المستعدة للمضي في تقاسم السيادة في مجالات محددة من خلال مؤسسات ديمقراطية موحدة، بينما يُترك لبقية الدول حرية الانضمام لاحقاً. هذه الفكرة تنبع من إيمانه بأن التقدّم الأوروبي لا يمكن أن يكون مشروطاً بإجماع كامل، ويجب أن يُفتح المجال للتكامل المتمايز حسب رغبة وقدرة كل دولة.
يمثّل هذا الطرح نقلة نوعية في التفكير بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي، فهو لا يسعى إلى فرض نموذج جاهز على الجميع، بل يوفّر بنية مرنة تسمح بالحفاظ على وحدة الاتحاد من دون إلغاء التعدد. كما يمنح هذا النموذج الجديد شرعية أكبر للاتحاد أمام مواطنيه، من خلال تعزيز مبدأ المحاسبة، وربط السلطة بالتمثيل المباشر، وإشراك الشعوب الأوروبية في اتخاذ القرارات الكبرى.
يتّسم أسلوب فابريني بالدقة والوضوح، مع عمق أكاديمي مدعوم بأمثلة تاريخية وتحليلات مؤسسية. ويستند العمل إلى منهجية مقارنة وعملية في اقتراح الحلول. ومن اللافت أنه يوازن بين الاعتبارات النظرية والتحديات العملية، ما يجعله مرجعاً مهمّاً لصانعي السياسات، والباحثين، وكل من يهتم بمستقبل أوروبا.
أخبار متعلقة :