حكاية الفيلسوف الأعمى - الهلال نيوز

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
حكاية الفيلسوف الأعمى - الهلال نيوز, اليوم الاثنين 4 نوفمبر 2024 05:00 صباحاً

في بداية رحلتي العلمية لمرحلة الدكتوراه في منتصف العام 2019 التقيت بأحد الأساتذة المتخصصين في مجال الفيزياء من جامعة كالفيورنيا دون ميعاد. التقينا في نيوزيلندا مدينة كرايستشرش وأقمنا في الفندق نفسه. كانت زيارته لنيوزيلندا دعوة لمساهمة بحثية في جامعة أوتاقو وفضل أن يزور مدينة كرايستشرش. عمره يتجاوز السبعين وكنت أسأله نصيحة تعينني على إنهاء متطلبات المرحلة وكان القلق يبدوا واضحا من سؤالي. ما زلت أتذكر بعضا من كلامه لعلي أوجزه في كلمات مجازية حينما قال "لا تقلق بشأن دراسة الدكتوراه فهي عبارة عن رخصة مهنية، وهي الحقيقة التي أدركتها بعدما كنت مغرورا برسالتي الدكتوراه وحصولي على الدرجة، وحين بلغت من العمر في التجربة البحثية وأصبحت محكما في مجلات علمية اكتشفت أن رسالتي لا تستحق مني كل ذلك الغرور، ولو عاد بي الزمان لما خدعت نفسي، ولكنه الجهل المركب بالأشياء يجعلنا أكثر تحيزا، فالدكتوراه قد تعينك على قضاء حوائجك البحثية في المستقبل ولكن إياك أن تخدعك نفسك الأمارة بالسوء بالغرور ظنا منك أنك الأفضل وغيرك من الباحثين لا يفقهون شيئا، فالفلسفة تواضع لكسب ونشر المعرفة وليست تعالي وغرورا وليس هناك حقيقة مطلقة في البحث العلمي طالما أنت أطلقت سراح السجين المكبل في عقلك الجاهل بالمعرفة، فكلما تعلمت ونشرت أكثر اكتشفت جهلك أكثر؛ فالجزء من الحقيقة العلمية قد يغيب أحيانا عن الكل والكل قد يغيب عنه جزء مهم في تخصصك".

ولنا في حكاية الفيلسوف الأعمى عبرة، فهي تعتبر من القصص الرمزية التي استطاعت أن تعكس حكمة فلسفية عميقة حول أهمية الإدراك والمعرفة، وهي تدور حول فيلسوف أعمى يعيش في قرية صغيرة، ويُحترم على نطاق واسع من أهلها بسبب حكمته وذكائه. كان هذا الفيلسوف يمتلك نظرة ثاقبة للحياة وأبعادها المختلفة على الرغم من عدم قدرته على الرؤية. وتختلف تفاصيل القصة في سردها، لكنها غالبا ما ترتكز حول محاولاته لفهم أمور لا يمكن رؤيتها مباشرة وتقديره للجوانب غير المادية من الأشياء.

في إحدى الروايات، يقال إن بعض الناس أحضروا للفيلسوف الأعمى فيلا، وطلبوا منه "رؤية" الفيل عن طريق اللمس، فبدأ في لمس أجزاء مختلفة منه، لكن كل جزء من جسد الفيل أعطاه انطباعا مختلفا تماما. فالذي لمس الخرطوم ظنّ أن الفيل يشبه الأفعى، والذي لمس الأرجل اعتقد أنه يشبه الشجرة، ومن لمس الأذن اعتقد أنه يشبه المروحة، وهكذا اختلفت الآراء باختلاف موضع اللمس.

ويقتضي في هذا الحال أن يضيء الباحث في جوانب يستطيع إدراكها وفهمها لكي يستفيد المجتمع المعرفي من منشوره البحثي باعتدال دون مبارزة ولا قتال يحول بين معرفة وسؤال، فالحقيقة الظاهرية وغير الظاهرية سواء المادية منها وغير المادية متغيرة ونسبية لا محال، في كل علم ومجال، ولا عزاء لمن ضاق به الحال باحثا عن شهرة ومال شاهرا بمكانته العلمية متعال، فالله سبحانه وتعالى لا يحب كل مختال.

هذه القصة تعكس الفكرة الأساسية للفلسفة الهندية القديمة حول مسألة "الجزء والكل"، وتُعلّم أن الحقيقة ليست مطلقة، وأننا نرى العالم وندركه من زوايا محدودة ومختلفة. فكل فرد منا يُكوّن نظرته للعالم من منظور ضيق، ولا يمكن لأحد رؤية الحقيقة الكاملة بمفرده.

في سياق فلسفي أعمق، تطرح حكاية الفيلسوف الأعمى أهمية توسيع نطاق إدراكنا وفهمنا لوجهات النظر المختلفة. كما تشجّع على التواضع في السعي وراء المعرفة، وضرورة الاعتراف بأن رؤيتنا للحقيقة قد تكون مجرد جزء صغير من الصورة الكاملة دون إسقاط لبقية الأبعاد.

وليس طاليس وأفلاطون بعيدين عن هذه الحكاية حينما حاولا خلق مجتمع فاضل ملائكي يبصر بنظارة الحكمة والفكر والتعمق فيما يدور من حقائق مجهولة المعاني. كانا يحاولان إدراك الحقيقة ومحاربة الخرافات والأساطير حتى أوشك أن يهلك معها طاليس حينما سقط في الحفرة وهو رافع رأسه للسماء متأملا حقيقة النجوم، كاد أن ينكسر ظهره لولا عناية الله. انهالت عليه الضحكات والسخرية حتى أصبح العامة لا يصدقون ما يقول. في نهاية حياته قال مقولته الشهيرة سيبقى الفيلسوف وتبقى الفلسفة حكاية ترف لا يصدقها المجتمع.

أصدقه القول في ظل تحول اهتمامات المجتمعات المعاصرة التقنية. فقد حدث أن نحيت وأغفل جانب الفلسفة، بل أبعدت عن مواقعها في المجتمع الاستهلاكي الجديد، على مستوى الفكر والممارسة، ولم يعد لها مكان وقيمة سوى في الأوساط الأكاديمية والمجلات العلمية. فالفلسفة ومنذ زمن بعيد، لم تعد سوى حكاية ترف فكري قد لا تصدقه المجتمعات في ظل عالم الوفرة والاستهلاك السريع المرهون لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من السعادة.

كما يقول هوركهايمر "ينبغي أن يقاس محتوى الحقيقة للأفكار الأساسية بأصولها الاجتماعية التي نشأت عنها" من هذا المنطلق يقودني سؤال يتبادر في ذهني: إلى أي مدى يمكن أن تصبح الفلسفة ممارسة عملية؟ من الممكن أن يتعجب ويستغرب هذا السؤال القارئ، لكنه لا يمكن أن يثير دهشته. فحكاية الفلسفة والفيلسوف الأعمى هي الحقيقة التي استمدت عطاءها من رواد مدرسة فرانكفورت النقدية، تهدف دوما إلى أن تكون وسيلة وليس غاية لذاتها تجمع بين النظرية والممارسة العملية بكل اقتدار، وهنا نستطيع أن ندرك أهميتها. وفي المقابل هناك فلسفة تسمى الفلسفة الوضعية تحاول أن تبني عالما مختلفا بديلا، وهذا ما استطاع فهمه المهيمنون عندما أطلقوا حكمهم على سقراط بالإعدام!! ولا عزاء لنا فيك يا بشار بن برد حينما قلت أعمى يقود بصيرا لا أبا لكمُ.. قد ضل من كانت العميان تهديهِ. ومن بظنك سيقود الثاني لو أبصرنا الطريق وجهلنا كريم العقيق، فبعض الحكايات مشوارها طويل وحبلها مديد وبأسها سقراط من حديد فما عجبت إلا لراغبٍ في ازديادِ! فاتني ألا أكون أعمى وقد كنت بصرا غير بصير أفلا تعقلون!

أخبار ذات صلة

0 تعليق