الهلال الإخباري

الباحة في المشهد الثقافي السعودي: نحو استثمار استراتيجي للهوية المحلية - الهلال الإخباري

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الباحة في المشهد الثقافي السعودي: نحو استثمار استراتيجي للهوية المحلية - الهلال الإخباري, اليوم الخميس 19 يونيو 2025 12:01 صباحاً

تتقدم المملكة العربية السعودية في مسيرتها الثقافية بخطى واثقة نحو إعادة تشكيل الوعي الوطني، وتعزيز حضور الإنسان السعودي في الفضاء المعرفي والرمزي العالمي، مستندة في ذلك إلى رؤية 2030، التي جعلت من الثقافة إحدى ركائزها الأساسية. وقد شهدنا خلال السنوات القليلة الماضية تحولات نوعية في البنية المؤسسية والبرامجية للعمل الثقافي، عبر تأسيس وزارة الثقافة وهيئاتها المتخصصة، وتدشين مبادرات نوعية هدفت إلى تطوير الصناعات الإبداعية، وحفظ التراث، وإعادة تقديم الهوية السعودية بمكوناتها المتنوعة في قالب حديث.

ولعل من أهم ملامح هذا التحول هو العدالة الثقافية في توزيع الفعل الثقافي بين المناطق، وفتح المجال لكل منطقة أن تعبر عن ذاتها، وتُسهم في تشكيل الشخصية الثقافية للمملكة، وقد حظيت بعض المناطق بدفعات نوعية من الفعاليات والمبادرات، وهو ما انعكس على تنامي حضورها في الوعي الوطني والعالمي، إلا أن ذلك لا يعني تساوي الفرص أو تكافؤ المخرجات بعد، وهنا تأتي أهمية النظر إلى منطقة الباحة بوصفها نموذجا جديرا بالاهتمام والدراسة.

الباحة، بما تملكه من رصيد طبيعي وثقافي وتاريخي، تُعد من المناطق الواعدة التي تستحق موقعا متقدما في خارطة الفعل الثقافي السعودي، فهي لا تمثل فقط حالة جمالية في البيئة والطبيعة، بل تختزن إرثا سرديا وإنسانيا بالغ الثراء، من فنون شعبية متجذرة كالعرضة الجنوبية والمسحباني، إلى الحرف التقليدية، والعمارة الحجرية، والمرويات الشفاهية التي ما تزال حية في الذاكرة الجمعية. إن الطقس الجبلي المتغير، والقرى المُعلّقة على السفوح، والتضاريس التي تروي الجمال من زوايا مختلفة، تمنح الباحة هوية جمالية قابلة للتحويل إلى سرد بصري وثقافي عابر للحدود.

وقد أبدت وزارة الثقافة مؤخرا اهتماما ملموسا بالباحة، تجلى في بعض المبادرات النوعية، كمشروع توثيق الحرف اليدوية، وبرامج التدريب الثقافي، والفعاليات المصاحبة لمواسم السعودية، وهذا يُعد مؤشرا مشجعا على أن الباحة دخلت فعليا إلى دائرة الضوء، وإن بقي هذا الحضور في حاجة إلى مزيد من التوسيع والتكثيف والتمركز المؤسسي. إن الجمال لا يكفي وحده، بل لا بد أن يُترجم إلى بنية تحتية ثقافية تحتضن الفنون وتحفز الاقتصاد الإبداعي.

إن الرؤية التي يحملها صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور حسام بن سعود بن عبدالعزيز - أمير منطقة الباحة - تتسق تماما مع الأهداف الوطنية، إذ عبّر سموه في أكثر من مناسبة عن طموحه في أن تتحول الباحة إلى مركز ثقافي وسياحي ومعرفي متكامل، يستثمر إرثه، ويحتضن طاقاته الشابة، ويعيد تقديم نفسه للعالم من بوابة الثقافة، لا من نافذة السياحة فقط، وهذا التوجه ينسجم مع فلسفة الرؤية التي تربط التنمية بالهوية، والاقتصاد بالثقافة، والمستقبل بالجذور.

ولتحقيق ذلك، يمكن الاستفادة من تجارب دولية مشابهة، حيث نجحت مناطق ريفية أو جبلية ذات خصائص بيئية وثقافية فريدة في التحول إلى مراكز ثقافية عالمية، ففي إيطاليا، تحولت «توسكانا» إلى وجهة ثقافية بسبب احتضانها للفنون والمهرجانات رغم بعدها عن مراكز القرار، وفي اليابان، أصبحت قرية «شيراكاوا» مدرجة ضمن التراث العالمي، بسبب قدرتها على دمج الموروث بالمعاصر. حتى في المغرب، لعبت مناطق كـ «شفشاون» دورا ثقافيا وسياحيا مزدوجا، عبر استثمار الفنون المحلية والهوية البصرية للمدينة. إن هذه التجارب تؤكد أن الثقافة ليست حكرا على الحواضر الكبرى، بل قد تتنفس من بين الشقوق الجبلية، وتنمو في الظلال الحضرية، حين تُرعى بعناية واهتمام.

وبهذا المنطق، فإن الباحة لا ينقصها إلا استراتيجية ثقافية متكاملة، تجعل منها مركزا إنتاجيا للفنون البصرية، والنصوص الأدبية، والأرشفة الرقمية للتراث، والمهرجانات المتخصصة، والمتاحف الحيّة التي تقدم التجربة الثقافية لا مجرد العرض الساكن، كما يمكن أن تكون الباحة مقرا دائما لملتقيات فكرية سنوية تستقطب المفكرين والمبدعين لمناقشة قضايا الهُوية السعودية من قلب الجبال التي تحفظ ذاكرة المكان.

كما أن إنشاء معهد ثقافي في الباحة، يتخصص في تدريب الشباب على الصناعات الثقافية، والإعلام الإبداعي، وفنون التراث، سيكون خطوة نوعية تضع الباحة في قلب خارطة الفعل الثقافي، وتسهم في خلق اقتصاد ثقافي مستدام، يرتبط بالمنطقة ويمتد أثره إلى الخارج.

ختاما، فإن وزارة الثقافة مشكورة قد فتحت الباب، وبدأت بالفعل في توزيع الاهتمام، لكن استدامة هذا الدور وتكثيفه في مناطق مثل الباحة سيسهم في ترسيخ الفعل الثقافي بوصفه عملية وطنية شاملة، وإن تفعيل الشراكات بين الجهات الرسمية والقطاع غير الربحي والمجتمع المحلي، سيخلق بيئة ثقافية ديناميكية تجعل من الباحة منبرا ثقافيا أصيلا لا يمثل نفسه فقط، بل يُعبر عن الوطن بألوانه كافة.

إن الثقافة ليست ترفا، ولا تكرارا لصور الماضي، بل هي استثمار في الوعي، واستدعاء حيّ للمعنى، وفتح لأفق المستقبل، والباحة تملك من المفردات ما يؤهلها لأن تكون بيتا للمعنى، ومنارة للهوية، وجسرا بين الذاكرة والمستقبل.

Drmutir@

أخبار متعلقة :