الحوسبة الكمية وتطوير الأدوية - الهلال الإخباري

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الحوسبة الكمية وتطوير الأدوية - الهلال الإخباري, اليوم الخميس 6 مارس 2025 12:37 صباحاً

شهد العالم في السنوات الأخيرة بروزا متسارعا لتقنية الحوسبة الكمية (Quantum Computing)، التي تعد نقلة نوعية في عالم التكنولوجيا والمعلومات. تقوم هذه التقنية على مبدأ استثمار خواص الجسيمات الكمية، لحل مشكلات بالغة التعقيد بسرعة غير مسبوقة مقارنة بالحواسيب التقليدية. ومع تطور هذه الحواسيب الكمية تدريجيا، بدأ العديد من القطاعات الصناعية والبحثية بالاستفادة من إمكاناتها. ويأتي قطاع تطوير الأدوية في مقدمة المجالات المرشحة لتحقيق طفرة ثورية في اكتشاف وتركيب الأدوية بفضل قدرات الحوسبة الكمية الهائلة.

تستند الحوسبة الكمية عزيزي القارئ إلى المبادئ الأساسية لميكانيكا الكم، وأبرزها مبدأ «التراكب» (Superposition) الذي يسمح لـ»الكيوبِت» (Qubit) – الوحدة الأساسية في الحوسبة الكمية، بأن يتخذ أكثر من حالة في وقت واحد، خلافا لـ»البت» (Bit) في الحواسيب التقليدية الذي يقتصر على حالتين: صفر أو واحد. بالإضافة إلى ذلك، يتيح مفهوم «التشابك الكوانتمي أو الكمي» (Quantum Entanglement) ترابطا عميقا بين الكيوبِتات؛ بحيث يؤثر أي تغيير في إحداها بشكل فوري على الأخرى، وإن كانت بعيدة عنها مكانيا. ينتج عن هذه الخصائص مقدرة غير اعتيادية على إجراء عمليات حسابية متوازية ومعالجة مشكلات رياضية معقدة بسرعة هائلة، ما يفتح الباب أمام إيجاد حلول كان من المستحيل أو شبه المستحيل الوصول إليها بالاعتماد على الحواسيب التقليدية فقط.

يمر تصميم الأدوية وتطويرها بمراحل معقدة وطويلة، تبدأ من دراسة التفاعلات الجزيئية واختيار المركبات المرشحة للعلاج، ثم التحقق من فعاليتها في المختبرات والحيوانات وصولا للتجارب السريرية على البشر. وتتضمن هذه العملية تحليلا دقيقا لبناء الجزيئات وتفاعلاتها المحتملة مع بروتينات الجسم وأجهزته الحيوية. وتلجأ الشركات البحثية إلى الحوسبة الفائقة (High-Performance Computing) لتقليص الزمن والتكاليف المرتبطة بالتجارب المعملية، عبر استخدام «المحاكاة الجزيئية» (Molecular Simulation) التي تمكن من التنبؤ بوظائف الجزيئات وتماثلها البنيوي. ومع ذلك تبقى كثير من الجوانب الفيزيائية والكيميائية معقدة بصورة تفوق قدرة الحواسيب الحالية، ما يحول دون الوصول إلى محاكاة دقيقة أو سريعة تكفي لتصميم أدوية ناجحة في وقت وجيز.

يعد فهم التفاعلات بين الجزيئات والمستقبلات الخلوية من أهم الخطوات في مجال تصميم الأدوية. وهنا تبرز مزايا الحوسبة الكمية، فقدرتها على البحث في فضاءات حسابية شاسعة بسرعة عالية تسمح بمحاكاة أكثر تفصيلا للتفاعلات الكيمائية، والتحليل العميق للترابطات بين البروتينات والجزيئات الفعّالة (Drug Molecules). يمكن لحواسيب الكمّ إجراء عمليات رياضية تقوم بحل معادلات شديدة التعقيد تصف سلوك الالكترونات وتفاعلها داخل الجزيئات، وبشكل أسرع بكثير من الحواسيب التقليدية. ومن شأن هذا الدعم الحسابي الكمي أن يقلص دورة الاكتشاف الدوائي عبر تمكين محاكاة التركيبات الدوائية والتنبؤ بمدى ارتباطها بالبروتين الهدف (Target Protein)، مما يختصر الكثير من الاختبارات المخبرية المكلفة. وأيضا تحسين اختيار المركبات الأنسب لإجراء التجارب، ما يزيد من احتمال نجاح المرحلة السريرية وتجنب الهدر الكبير في التكلفة والوقت. وأيضا عزيزي القارئ، تساعد الحواسيب الكمية على دراسة بنى جزيئية معقدة تضم مئات الذرات بدقة أعلى، مما يفسح المجال لتطوير أدوية تستهدف أمراضا نادرة أو مقاومة للعلاج التقليدي.

في هذا المجال عزيزي القارئ، بدأت بعض الشركات الرائدة في عقد شراكات مع مؤسسات تقنية لتوظيف الحوسبة الكمية في البحوث الدوائية. فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة «فايزر» (Pfizer) عن تعاون مع شركات حوسبة كمية مثل «آي بي إم» (IBM) و»غوغل» (Google) لدراسة وتقييم نماذج محاكاة جزيئية. كما ظهرت شركات ناشئة تتركز أعمالها بالكامل حول تقنيات المحاكاة الكمية وتحليل الجزيئات الدوائية سعيا لتوفير حلول تتفوق على قدرات الحواسيب التقليدية. على الرغم من أن هذه التجارب لا تزال في مراحلها الأولية، فإنّ النتائج المبكرة مشجّعة، وتكشف عن إمكانات كبيرة لتعزيز دقة المحاكاة وسرعة التنقيب الدوائي.

ما زال أمام الحوسبة الكمية طريق طويل قبل أن تصبح تقنية سائدة في ميدان اكتشاف الأدوية. إذ تستلزم المحافظة على الحالات الكمية بيئات معقدة من التبريد الشديد والوقاية من أي اهتزازات أو ضوضاء قد تُضعف الكيوبِتات وتؤثر في نتائج الحساب. وتتطلب الأجهزة الكمية الراهنة عددا محدودا من الكيوبِتات القادرة على العمل بدقة عالية، وهي مسألة تضع قيودا على تطبيقات ضخمة بحجم صناعة الأدوية العالمية. كذلك يطرح تساؤل حول جدوى التكلفة، إذ ما يزال الاستثمار في هذا المجال يتطلب ميزانيات ضخمة، وعقد شراكات طويلة الأمد بين المؤسسات البحثية والحكومات والشركات التقنية.

على الرغم من هذه التحديات، يعد اندماج الحوسبة الكمية في صناعة الأدوية اتجاها واعدا سيتطور تدريجيا خلال الأعوام القادمة. ومن المرجح أن تُحدث هذه الثورة نقلة في أسلوبنا لفهم الكيمياء الحيوية وتطوير العلاجات الموجّهة (Targeted Therapies) والطب الشخصي (Personalized Medicine). فقد يتمكن العلماء في المستقبل من نمذجة جزيئات دوائية معقدة في أيام أو ساعات بدلا من أشهر أو سنوات، وبالتالي تسريع طرح عقاقير مبتكرة في الأسواق لمكافحة أمراض مستعصية، وتخفيض تكاليف الأبحاث السريرية المرهقة على شركات الدواء.

nabilalhakamy@

أخبار ذات صلة

0 تعليق