نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
فرنسا والجزائر.. من التهديد إلى التمجيد - الهلال الإخباري, اليوم الثلاثاء 15 أبريل 2025 12:19 صباحاً
هذا التحول الكبير في العلاقات بين البلدين أتى بشكل سريع، فبمجرد أن هدأت عاصفة التصريحات، أجرى الرئيسان إيمانويل ماكرون وعبد المجيد تبون اتصالا هاتفيا نهاية مارس الماضي، لتبدأ النبرة في التغير من العداء إلى الصفاء والإخاء، وبعد ذلك بأيام قليلة حطت طائرة وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، في الجزائر حاملا غصن الزيتون الدبلوماسي.
وفي ظرف وجيز، تبدل خطاب باريس 180 درجة، من لهجة الوعيد بمراجعة الاتفاقيات، إلى لهجة الود والتأكيد على الصداقة الدائمة، والروابط التاريخية والعلاقات الإنسانية بوجود كثير من الأسر الفرنسية الجزائرية التي تقسم حياتها بين ضفتي البحر المتوسط، وكأن ذاكرة الدبلوماسية قصيرة جدا، فالأزمة غير المسبوقة، التي وصفت بالأخطر منذ عقود، جرى طي صفحتها بلمح البصر، وعادت الوفود لتتبادل الزيارات والابتسامات أمام عدسات الكاميرات.
وبعد لقاء استمر لأكثر من ساعتين بين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ووزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو قبل أيام في الجزائر، أعلن البلدان مرحلة جديدة، وصفت بالإيجابية، وأكد الجانبان على استئناف شامل للعلاقات الثنائية.
إن هذا التوافق أتى بعد أزمة حادة كادت أن تؤدي إلى قطيعة بين البلدين، وهو ما تخشاه فرنسا أكثر من الجزائر نظرا لمصالحها الاقتصادية في الجزائر، والثقل الكبير للجالية الجزائرية في فرنسا، ما جعل وزير الخارجية الفرنسي بارو يكشف بعد الاجتماع عن رغبة مشتركة في رفع الستار من أجل إعادة بناء شراكة هادئة حسب وصفه، معلنا استئناف العلاقات الثنائية، خصوصا في المجال الأمني من أجل المصلحة المشتركة وتحقيق نتائج ملموسة لصالح مواطني البلدين.
ومن الملفت للنظر أن ملف الهجرة، الذي كان شرارة التفجير، أصبح جزءا من لغة التصالح، إذ أكد وزير خارجية فرنسا أن الجانبين اتفقا على استئناف التعاون في مجال الهجرة فورا ضمن الإجراءات القنصلية العادية والسلسة، وبعبارة أخرى، ما كان بالأمس ذريعة للوعيد بات اليوم قضية يتفق على حلها بسرعة.
ويمكن تفسير تراجع فرنسا في موقفها السابق المليء بالمقايضة والابتزاز، بأنه رضوخ لاستمرار الجزائر في مواقفها بعد أن ردت على التصعيد الفرنسي ببرود وحزم، وأصدرت وزارة خارجيتها بيانا مقتضبا يتهم باريس بخرق التفاهمات القائمة بين البلدين، معلنة تجاهلها الإنذار الفرنسي الصريح، إلى جانب تلويح بتعطيل امتيازات الشركات الفرنسية العاملة على الأراضي الجزائرية.
لذلك، تبدو لغة المصالح هي التفسير الأكثر إقناعا، فمن يستعرض أوراق اللعبة يدرك أن باريس لم تبدل موقفها فجأة بدافع النبل الدبلوماسي، بل لأنها قرأت حساباتها جيدا ووجدت كفة الميزان تميل لصالح التهدئة، ويمكن تعداد أبرز الدوافع التي جعلتها تعيد النظر وتختار التصالح بدل التصعيد: الخسائر الاقتصادية الوشيكة، واعتبارات الأمن ومكافحة الإرهاب، وضغط السياسة الداخلية الفرنسية، والتوازنات الإقليمية والجيوسياسية.
ومن حيث الخسائر الاقتصادية، أدركت باريس أن التصعيد كاد يكلفها غاليا، فقد بدأت مؤشرات التضييق الجزائري غير المعلن تظهر بوضوح، مثل استبعاد شركات القمح الفرنسية من مناقصات الجزائر خلال فترة الخلاف، وخشية الحكومة على مصالح 6 آلاف شركة فرنسية تعمل في الجزائر، فضلا عن تراجع واردات رئيسية كالسيارات والمواد الزراعية إن استمر التوتر.
أما الاعتبارات الأمنية ومكافحة الإرهاب، فتعد الجزائر بوابة الساحل الأفريقي المضطرب، حيث تخوض فرنسا حربا ضد الجماعات المتطرفة هناك وتعتمد على معلومات استخباراتية وتنسيق أمني مع الجزائريين، وخلال الأزمة الأخيرة توقفت عمليا قنوات التنسيق الأمني بين البلدين، مما أثار قلقا لدى الأجهزة الفرنسية من فراغ أمني قد تستغله التنظيمات الإرهابية في المنطقة.
كما لا يمكن إغفال الضغوط السياسة الداخلية في فرنسا، فالحكومة التي تواجه معارضة شرسة وارتفاع شعبية اليمين المتطرف، أرادت إثبات حزمها في ملف الهجرة واللجوء، إلا أن وزير الداخلية الجديد، جعل من قضية الترحيل قضية رمزية لإظهار القبضة الحديدية، لكن ما إن وصلت الأزمة إلى الإضرار العملي بالمصالح العليا، حتى تدخلت الحسابات العقلانية، فالرئيس ماكرون نفسه يدرك أن استعداء الجزائر علنا لن يحقق الكثير عمليا، خاصة أن أرقام الترحيل الفعلية ضعيفة فهي لا تتخطى 10% فقط من قرارات الترحيل.
أما فيما يتعلق بالموازنات الإقليمية والجيوسياسية، فإن فرنسا تخشى خسارة نفوذها الإقليمي في ظل منافسة قوى دولية أخرى على كسب ود الجزائر، التي بدت مؤخرا أقرب إلى شركاء جدد كالصين وروسيا، كما أنها ورقة محورية في قضايا إقليمية، منها ملف ليبيا وملف الغاز في المتوسط، ولا ترغب باريس في تركها لخصومها.
كما أن غضب الجزائر من انحياز فرنسا للمغرب في قضية الصحراء الغربية، أنذر باريس بأنها قد تدفع ثمنا سياسيا باستبعادها من ملفات مغاربية مهمة، لذا وجب على فرنسا لملمة الجراح سريعا واسترضاء الجزائر قبل أن يتعمق الشرخ ويصعب ترميمه.
إن المتعمق في السياسة الفرنسية يعي ذلك، وهذا ما أشرنا إليه في مقال سابق حول ضرورة أخذ فرنسا للتهدئة في ظل العلاقات الثنائية المتشابكة بين البلدين والخيارات الاقتصادية التي تملكها الجزائر في التخلي عن حليف استراتيجي كفرنسا.
0 تعليق