الهلال الإخباري

«وصية مريم».. وجع يتدفق من ذاكرة الدم - الهلال الإخباري

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
«وصية مريم».. وجع يتدفق من ذاكرة الدم - الهلال الإخباري, اليوم الخميس 17 أبريل 2025 02:29 مساءً


يمثل عرض المونودراما «وصية مريم»، من تأليف جمال آدم وإخراج د.عجاج سليم وأداء الممثل القدير محمد حداقي، صرخة عالية في وجه النسيان، ويؤكد من جديد أن المسرح لا يزال أصدق وسائط التعبير عن الألم الإنساني في زمن تتنازعه الحروب والمآسي.
ضمن 40 دقيقة من الأداء المتماسك، ينقلنا العرض الذي احتضنه مهرجان الفجيرة للمونودراما، إلى قلب تجربة إنسانية باذخة الحزن، من خلال شخصية الأستاذ الذي تُطارده ذاكرة الطفلة «مريم»، تلميذته التي دهستها سيارة عسكرية مسرعة، دون ذنب سوى أنها كانت تمرّ من هناك.
هناك الكثير من الدلالات المحتملة لكون السيارة عسكرية وأن الطفلة اسمها مريم وأنها حاضرة، كما الكثير من الأطفال الذين رحلوا في الحرب وبقيت أحذيتهم معلقة، يتحدث إليها الأستاذ كرمز لصانع مستقبل وجد نفسه فجأة مكلوماً.
النص يستنطق الألم، لا ليحصره في الخاص، بل ليجعل من مريم مرآة تطارد كل الناس الذين فقدوا أبناءهم أو جزءاً من إنسانيتهم وما أكثرهم.
إذا كانت المونودراما شكلاً فنياً يجسد المعاناة، فإنها هنا ليست خاصة بالبيئة التي طرحها العرض وأشار بذكاء لصنّاع مأساتها دون أن يأخذ صفة المطبّل والمزمّر للجهة المقابلة، وهذا ذكاء وقيمة مضافة تسجل للنص في زمن المسرح المباشر.
عليك أن تكون سورياً لتهطل دموعك مطراً مع جملة مثل «يا الله أطعمنا من عندك الموت وريحنا» أو صوت مذيع مع غناء فيروز يعلن اسم «إذاعة الجمهورية العربية السورية من دمشق» أو حتى كلمة «الخوووووف».

 


اختيار نوع المونودراما لم يكن عارضاً، بل هو عنصر جوهري وأساسي؛ لأن الوجع الشخصي ليس له حل إلا خلاصاً فردياً.
بطل العمل،«الأستاذ»، لا يكتفي بسرد الذكريات، بل يتحول إلى أرشيف وجع، يعيد بناء المشهد أمام الجمهور بحيوية فنية ومشاعر متدفقة بجُمل لا تنسى «البيجاما ما عادت بيضا.... وما فهمت وينها مريم» ليتحول النص إلى محاكمة أخلاقية، يوجهها نحو الجميع: الجمهور، المجتمع، وربما نفسه، متسائلاً: «بأي ذنب قتلت» مريم؟
في وصية مريم ضحك بطعم الدم، ورغم ما يحمله العمل من مآسٍ، فإنه لا يغرق في الميلودراما، بل يوظف الكوميديا السوداء ببراعة؛ فالأستاذ، في لحظات، يبدو ساخراً من عبثية الموت، و يعدد مواقف المأساة التي عاشها وتصنيفه ضمن التيارات المتعارضة.
بهذه اللغة، يجرّ العمل الجمهور إلى الضحك، لكنه ضحك يلدغ ويوخز الضمير.
في أداء الممثل محمد حداقي، تتجسد ملامح الصراع الداخلي لشخصية الأستاذ. بحركات محسوبة، ونبرات صوت تراوح بين الهمس والصراخ، يرسم حداقي سيرة الألم دون أن يسقط في الاستعطاف، بل يمنح الشخصية كياناً حقيقياً ومرآةً تعكس عمق التجربة.
وفي إدارته وإخراج أجمل ما لديه يقدم د. عجاج سليم حلولاً بقدر واقعيتها تغوص في الرمزية ودائماً تغرق بجمال الإسقاط و عمق الدلالة.
وجاءت إضافات الرؤية البصرية ولمسات مهندس الإضاءة ماهر هربش وتجانس عناصر العمل ليكون العرض الوصية التي لا تُنسى.
كل ذلك لم يكن لينجح لولا الفكرة والكلمة التي كانت في البدء وصنعها الصحفي والكاتب جمال آدم من خبر مصوّر يحكي عن غرق أحد قوارب تهريب الأحلام إلى أوروبا وجمع أحذية الأطفال الذين ماتوا فيه عند الشاطئ.
«وصية مريم» مونودراما أسئلة موجعة: من يكتب التاريخ؟ من ينجو من ذاكرة الرصاص؟ من السبب؟ من سيجعلنا نغفر؟ من سيخبر الحقيقة عنّا؟ أين الحقيقة أصلاً وسط كل هذا الموت الآتي من كل الجبهات؟ إنه عرض يحمل وجعاً قدّم بجمال فني ليثبت أن المونودراما، رغم بساطة شكلها و محدودية أدواتها مقابل الأنواع المسرحية الأخرى، يمكن أن تكون أداة فنية هائلة للتعبير عن أعقد القضايا. وفي مهرجان الفجيرة، حيث تتوهج الكلمة والصوت والجسد، وجدت هذه المسرحية مكانها الطبيعي لتصفع الجميع دون استثناء بالمشهد الأخير «الدنيا تمطر أحذية أطفال رحلوا» على وقع أغنية «احكيلي احكيلي عن وطني احكيلي» وتلخّص حق كل منّا بالرحيل وعلى الوطن أن يقنعنا بالبقاء.

أخبار متعلقة :