القانون الدولي هو الإطار الذي ينظم العلاقات بين الدول والكيانات الدولية، ويضع القواعد التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار والسلام على المستوى العالمي. يُعتبر تنظيم الحروب أحد أهم محاوره؛ حيث يسعى إلى تقنين استخدام القوة ومنع النزاعات العشوائية، مما يُسهم في تقليل معاناة الشعوب والحد من تداعيات الصراعات.
يمثّل كتاب «الحرب، الدول، والنظام الدولي: ألبركو جنتيلي وأسطورة القوانين الحديثة للحرب»، الصادر عن مطبعة جامعة كامبريدج في مارس/ آذار 2024 ضمن 318 صفحة للكاتبة كلير فيرغيريو، دراسة مهمة تُعيد النظر في أسس القانون الدولي الإنساني والقوانين التي تنظم الحروب. ينطلق الكتاب من سؤال مركزي: من يملك الحق في شن الحرب؟ هذا السؤال الذي يحدد أحد المبادئ الأساسية للنظام الدولي، يجد إجابته التقليدية في الحق الحصري للدول ذات السيادة. يُفترض أن هذه القاعدة مستمدة من أفكار الفقيه القانوني ألبركو جنتيلي في القرن السادس عشر، والذي كان يعرف باسم «أبو القانون الدولي»، إلا أن كلير فيرغيريو تكشف أن هذا الادعاء مجرد أسطورة تأسست في القرن التاسع عشر على يد مجموعة من المحامين الدوليين البارزين.
ألبركو جنتيلي وترويض الحروب
كان ألبركو جنتيلي (1552–1608) فقيهاً قانونياً إيطالياً، هرب إلى إنجلترا بسبب اضطهاده جراء عقيدته البروتستانتية. هناك، حقّق مسيرة مزدهرة كأستاذ قانون في أكسفورد في ثمانينات القرن السادس عشر، وكمحامٍ في لندن في تسعينات القرن نفسه حتى وفاته في عام 1608. بالنسبة لمعجبيه، كان جنتيلي بطلاً مبكراً لجهودهم الإنسانية لتقنين تنظيم الحروب، وربما «المؤسس الحقيقي للقانون الدولي»، في مواجهة الشخصية الأكثر شهرة، هوغو غروتيوس. تشير الكاتبة إلى أن الأهم بالنسبة لهم أن جنتيلي – على عكس غروتيوس – أرسى على رأي أن الحرب شأن عام، وبالتالي هي حق قانوني حصري للدول ذات السيادة. وُصف غروتيوس بأنه ظل «تقليدياً» في تعريفه للحرب؛ حيث شمل الحروب الخاصة ضمنها، بينما جنتيلي، في تعريفه الشهير في كتابه «دي يوري بيللي» لعام 1598، قال: «الحرب هي صراع عادل بين القوات العامة.»
وتوضح الكاتبة أن هذا التعريف، بالنسبة لمعجبيه، أدخل تنظيم الحرب إلى العصر الحديث. بدا هذا الفهم لجنتيلي متوافقاً تماماً مع السرد الأوسع الذي نشأ حول صعود نظام الدول الحديثة في القرن السابع عشر، خصوصاً مع صلح وستفاليا عام 1648. يمكن رسم خط مباشر بين تعريف جنتيلي للحرب عام 1598 وقصة ظهور نظام الدول ذات السيادة بعد خمسين عاماً، وهو نظام ركّز السلطة في يد كيانات إقليمية متميزة لا تعترف بأي سلطة أعلى، وتتعامل مع بعضها كأنداد قانونيين. وفقاً لهذا السرد، أصبح تخصيص الحق القانوني لشن الحرب للدول ذات السيادة فقط، كما صاغه جنتيلي بعقلية إنسانية وطُبّق عملياً خلال القرن السابع عشر، أحد العوامل الرئيسية التي ساعدت في استقرار النظام الجديد للدول بعد الكوارث الدينية الكبرى.
وترى الكاتبة أن هذا السرد اليوم، لا يزال يحتفظ بجاذبيته الكبيرة، على الرغم من الدحض الشامل لما يسمى بأسطورة وستفاليا، وهو الادعاء الشائع والمضلل بأن نظام الدول الحديثة ظهر عام 1648. وتؤكد أن الفكرة القائلة - بأن الحرب أصبحت «حديثة» عندما تم تقييد الحق في شنها بالدول ذات السيادة فقط، وأن هذا التقييد كان يهدف إلى الحد من أهوال الحروب، وأن هذا التطور استند إلى حد كبير على أعمال ألبركو جنتيلي - تُعتبر افتراضاً واسع الانتشار بين الباحثين في العلاقات الدولية والقانون الدولي.
هدف هذا الكتاب هو تحدي هذه القصة عن الحداثة والدول وترويض الحرب من خلال كشف كيفية بنائها ونشرها في مجالات العلاقات الدولية والقانون الدولي. المرتكز الأساسي للكتاب هو أن السرد حوّل جنتيلي وظهور «الحرب الحديثة» -إلى حد كبير- إلى أسطورة، تم تطويرها لأول مرة في أواخر القرن التاسع عشر، عندما انتصرت الدولة ذات السيادة الحديثة في القانون الدولي، ثم تكررت وتضخمت وتكرست من خلال أعمال علماء القرن العشرين، ولا سيما كارل شميت. يروي الكتاب قصة بناء هذه الأسطورة، ويظهر القوة التي لا تزال تمارسها على خيالنا الجمعي. وتؤكد الكاتبة أن الهدف الأوسع للكتاب هو فتح المجال للباحثين لطرح تفسيرات بديلة للعملية التي أصبح فيها الحق القانوني لشن الحرب امتيازاً حصرياً للدول ذات السيادة.
سرديات الحرب الحديثة
لفهم هذا الظاهرة واستيعاب نشأة السرد السائد حول جنتيلي والحرب الحديثة، يتبنّى الكتاب نهجاً من خطوتين: الخطوة الأولى تستكشف ما كان ألبركو جنتيلي يسعى إلى تحقيقه في عصره من خلال مؤلفه الشهير لعام 1598 «دي يوري بيللي» (قوانين الحرب)، وكيف تمّ استقبال أعماله في أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر. أما الخطوة الثانية، فتتعمّق في عملية إحياء ذكرى جنتيلي في القرن التاسع عشر، والتطورات اللاحقة التي جعلت السرد الشهير حول جنتيلي والحرب الحديثة ونظام الدول القومية أمراً شائعاً بين الباحثين المعاصرين.
هذا النهج المزدوج ينبع من منطق بسيط: بفهم السياق الأصلي للنص وما كان يسعى لتحقيقه، يمكننا أن ندرك بشكل أفضل مدى تحريف معناه من قبل قراء لاحقين، سواء عن قصد أو غير قصد. غالباً ما تكون أكثر التحريفات إقناعاً هي غير المقصودة والمبنية على جزء صغير من الحقيقة. هذا النهج لا يكتفي بتأكيد حدوث التحريف بل يسعى لفهم شكله وآليته. الهدف من هذا النهج هو تجاوز مجرد الإقرار بأن القوانين الكلاسيكية هي بناء تاريخي واستكشاف الطرق المحددة التي تم بها استيعاب نص المؤلف وأفكاره من قبل قرائه لاحقاً، مما يسمح بتحليل نقدي أعمق لتطور القوانين والتقاليد الفكرية الأوسع. يعتمد هذا النهج، بشكل جدلي إلى حد ما، على إمكانية استعادة نية المؤلف الأصلية جزئياً على الأقل، واستخدامها كمعيار لمقارنة التفسيرات اللاحقة للنص.
تعرض الفصول الأولى السياق الأصلي لأعمال جنتيلي، لا سيما كتابه «دي يوري بيللي». في الفصل الثاني، تناقش الكاتبة كيف تمازجت أفكار جنتيلي مع تقاليد سياسية مثل «نظرية الدولة» التي طرحها جان بودن، ما جعل هذه الأفكار تتماهى مع العقلانية السياسية للدولة القومية الناشئة. في الفصل الثالث، تتناول الأسس التي بنى عليها جنتيلي رؤيته المطلقة لقوانين الحرب، والتي تركز على تعزيز سلطة الدولة وتنظيم استخدامها للقوة.
في الجزء الثاني من الكتاب، تسلط فيرغيريو الضوء على: كيف أُعيدت صياغة أفكار جنتيلي في القرن التاسع عشر لتحويله إلى «المؤسس الحقيقي» للقانون الدولي الحديث. في الفصل الرابع، تستعرض عملية إحياء أفكار جنتيلي بعد قرون من الإهمال، حيث أعاد المحامون الدوليون صياغة نصوصه لتتوافق مع مشروعهم لتكريس الدولة ذات السيادة كالموضوع الوحيد للقانون الدولي. يناقش الفصل الخامس كيفية بناء تاريخ «القوانين الحديثة للحرب»، موضحاً كيف ساهم هذا البناء التاريخي في تشكيل مفهوم الحرب الحديثة. في الفصل الأخير، تُركز فيرغيريو على تأثير الفيلسوف السياسي كارل شميت، الذي لعب دوراً حاسماً في ترسيخ هذه الأسطورة. توضح الكاتبة كيف ساهمت أعمال شميت في تعزيز الفكرة القائلة بأن الدولة وحدها هي الكيان القادر على خوض الحرب وفقاً للقانون الدولي، مما أدى إلى إقصاء جهات فاعلة أخرى مثل الجماعات غير الحكومية أو المنظمات الدولية.
يدعو الكتاب إلى إعادة تقييم شاملة لتاريخ القوانين الدولية المتعلقة بالحرب. من خلال منهجية تمزج بين العلاقات الدولية، والتاريخ، والقانون الدولي، يقدّم الكتاب رؤى جديدة حول كيفية صياغة القانون الدولي الحديث. كما يدعو إلى التفكير في العواقب السياسية التي نشأت عن اقتصار حق شن الحرب على الدول ذات السيادة، وتأثير ذلك في النزاعات الحديثة. يُعدّ هذا العمل إضافة قيّمة إلى حقل العلاقات الدولية والدراسات القانونية، ونال جائزة فرانشيسكو غوتشياردي لأفضل كتاب في العلاقات الدولية التاريخية لعام 2023. كما يمثل قراءة ضرورية لفهم الأسس التي تقوم عليها قوانين الحرب الحديثة، وكيف تشكلت هذه القوانين استجابة لمصالح الدولة القومية بدلاً من كونها نتيجة طبيعية للتطور الفكري البشري.
أخبار متعلقة :