نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
حرب الفساتين - الهلال الإخباري, اليوم الثلاثاء 29 أبريل 2025 01:04 صباحاً
برزت خلال الأيام الماضية واحدة من أكثر حالات التراشق الإعلامي تفاهة في تاريخ العلاقات الدولية، مما جعل لغة الخطاب السياسي بين دولتين نوويتين تنحدر حتى تصل إلى خلافات بين مؤثرتين على منصات التواصل الاجتماعي وشتائم حول الفستان الأحمر، الذي كانت ترتديه متحدثة البيت الأبيض كارولين ليفيت، وهي تتوعد الصين بإجراءات انتقامية، ورسوم جمركية باهظة، ومقاطعة لمنتجاتها.
وبعد أن كان ينتظر العالم خطابات سياسية متزنة بين واشنطن وبكين لإدارة الحروب حول السيادة والاقتصاد والتكنولوجيا ومصير العالم، وجد نفسه أمام نسخة جديدة تماما من الصراع عنوانها اللون الأحمر وخامته وجرأته، إذ فجرت المتحدثة باسم البيت الأبيض أزمة سياسية إعلامية جديدة ليس عبر إعلان عسكري ولا موقف دبلوماسي بل من خلال فستان أحمر ارتدته في مؤتمر صحفي.
هذا الفستان فتح مجالا للسخرية، بدأها دبلوماسي صيني عندما نشر في إحدى منصات التواصل الاجتماعي منشورا تضمن صورة لمتحدثة البيت الأبيض وهي ترتدي فستانا أحمر، إلى جانب صور لفستان مشابه معروض على موقع صيني للتجارة الالكترونية، في إشارة إلى أنه من صنع الصين.
هذه السخرية جرت بها الركبان، متهكمين على الاتهامات التي توجهها إحدى موظفات الإدارة الأمريكية وهي ترتدي فستانا من صنع الصين، لتتحول الأوساط السياسية من كونها ساحة صراع دبلوماسي وتنازع على موازين القوى وسباق على النفوذ وامتلاك للحجة، إلى ساحة ملابس واختيارات ألوان، ما بين فستان أحمر وخطاب فارغ، وهو ما أدى إلى هبوط هيبة القرار السياسي وانهيار الصورة التي طالما تصدرت بها هذه الدول مشهد الريادة.
في الماضي كان العالم يستمع إلى خطابات تبني أمما وتلهم شعوبا ويتردد صداها بفخر وهيبة، وتواجه خصومها بالمثل، من منطلق العين بالعين والسن بالسن، ومن ذلك ما قاله كنيدي «لا تسألوا عما يمكن لأمريكا أن تقدمه لكم بل اسألوا عما يمكنكم أن تقدموه لها»، وما قاله ريغان مخاطبا خصومه «الحروب لا تكسب بالشعارات بل بالإنتاج»، أما اليوم يعيش العالم عصرا تصبح فيه متحدثة رسمية بحجم البيت الأبيض موضوعا لمهاترات سطحية وتحليلات مستفيضة من إعلام الطرف الآخر وكأنها ارتكبت جريمة جيوسياسية لا غلطة أزياء.
إن ما يحدث في أوساط الإعلام السياسي لا يعكس أزمة في التوازن بين القوى الكبرى فقط، بل يكشف عن شرخ أعمق ضرب الديموقراطية نفسها، التي تحولت من ممارسة مؤسساتية إلى استعراض إعلامي لا تقاس فيه النوايا ولا المواقف بل عدد التفاعلات على منشورات التواصل الاجتماعي، وعدد المرات التي تكررت فيها صورة الفستان في الأخبار.
وعلى أثر المقولة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت «أسوء ما في الديموقراطية، أنها تجبرك على سماع أصوات الحمقى»، فإن مفهوم الديموقراطية بات اليوم متشبعا بمعاني الحماقة، بل إنه أصبح ينتج سياسيين حمقى، ممن يستغلون الشعوب المنهمكة في البحث عن لقمة العيش، ليجمعوهم في أوقات صناديق الانتخابات، حتى انعدمت قيمة الإنسان في دول عدة إلا في أيام معدودات، يضع فيها المواطن صوته وإصبعه في الحبر الأزرق، ويذهب بعد ذلك دون اكتراث السياسيين إلى مصيره.
إن تلك المناكفات التي خرجت بعد مواجهة مشروعة في عوالم ودوائر السياسة، وتبعت ظهور متحدثة البيت الأبيض في المؤتمر الصحفي، تعود بالسلب على المستوى القيمي والأخلاقي، وحتى على ثقل الدولة التي يجب أن تسير وفق تطلعات ومفاهيم محفوفة بالرصانة والأعراف الدبلوماسية والآداب العامة.
وبالرغم من أن مثل تلك الحملات الإعلامية المليئة بالمناكفات والمهاترات والإسفاف، يقوم بعضها على أساس تصرفات فردية أو شعبية، فإن انعكاسها على السياسة العامة للدولة مرفوض وغير خاضع لعواطف الشعوب ومصالحهم الضيقة، حتى إن كانت تقوم على أساس مناصرة الدولة نفسها وأصولها الوطنية.
وإن حدث ذلك وشهد دعما من الحكومات، فيجب أن يكون على نطاق ضيق، مع الحيلولة دون تحويله إلى قضية تافهة بين القوى العظمى، تقوم على تهكمات بدأت بفستان، وانتهت إلى اجتذاب ممن يمكن اعتبارهم سياسيين من الطرفين ودخولهم على الخط، ورميهم ما في قواميسهم من مرونة سياسية ودبلوماسية على حساب بروز عنصر الشعبوية.
لقد وفرت منصات التواصل الاجتماعي التي يفترض توظيفها للمصالح العامة والمعرفة، فرصة للمجردين من الذوق العام، وباتت مستنقعا الداخل إليه منبوذ والخارج منه متسخ، في وقت تحولت فيه الأوساط السياسية إلى ساحة صراع فيلة، كل حكومة تسعى لترويض الأخرى، مما أدخل المجتمعات في عمق تلك الصراعات، دون اكتراث للصورة العامة والكبرى للدولة بشعبها وتاريخها وحضارتها.
ويمكن القول إن مثل هذا التدهور في الخطاب لا يحدث في منصات التواصل الاجتماعي فقط، بل ربما يبدأ من اجتماعات رسمية داخل الحكومات، ويصاغ في ردود وزارات الخارجية المباشرة وغير المباشرة، فبعض التصريحات أصبحت مفصلة حسب الجمهور، والمواقف مصممة على طلب السوق، ليعيش عالم اليوم زمنا تقاس فيه الوطنية بكمية التعليقات على منصات التواصل الاجتماعي، والهيبة الدولية بعدد مرات ظهور كبار المسؤولين في الترند.
أخيرا، ربما تكون هذه الحرب ناعمة بالمعنى الحرفي لكنها تعكس هشاشة قاسية، وهنا يبرز بيت شعر يختصر كل شيء «إذا هان العظيم فلا تلوموا الصغير».
0 تعليق