نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
فلاشات الإعلام.. وذكريات مهنة المتاعب - الهلال الإخباري, اليوم الثلاثاء 18 مارس 2025 01:22 صباحاً
ومع تراجع دور المؤسسات الصحافية، التي ينبغي أن تكون هي المحتوى الأساسي والأغلب لهذه التجمعات الإعلامية، أصبحت الجهات سواء حكومية أو خاصة هي من يدعم تلك المناسبات الإعلامية، ليس لدعم الإعلام بل لدعم توجهاتها والوصول لجمهورها سواء كان مشرعا أو شريكا أو مستهلكا، ما جعل المناسبات الإعلامية تصبح سوقا للعلاقات العامة، حيث يتبادل حضورها المجاملات، وتحتضن منصاتها المؤسسات والشركات لتتحدث عن إنجازاتها.
في الماضي كان رواد الإعلام والمشاركين في مثل هذه المناسبات الإعلامية هم نخبة المجتمع من أكاديميين ومؤلفين وكتاب رأي وصحفيين، حيث جرت العادة على أن صناع الفكر هم من يثرون النقاشات بأطروحاتهم العميقة وأسئلتهم الجوهرية، أما اليوم، فقد تغيرت خارطة النخبة، وأصبح المقياس ليس عدد الكتب أو المقالات التي كتبها الشخص، بل عدد المتابعين الذين يضغطون على زر الإعجاب في حسابات مشهور ما، وشهرة بعض المسؤولين والجري خلفهم لتصديرهم المشهد الإعلامي.
ومن المثير للسخرية أن من يطلق عليهم «مؤثرين» أصبحوا يُدعون بصفة ضيوف شرف، وهم ليسوا سوى مشاهير بلا تأثير، يشاركون في نقاشات لا يفهمونها، ويتحدثون عن الإعلام كمجال خبرتهم، رغم أن أغلبهم لا يعرف الفرق بين الاتصال والإعلام، وبين الصحافة والإعلان، أو بين التحقيق الاستقصائي والمحتوى الترويجي، حتى أن كثيرا منهم لا يفرق بين المعلومة والرأي، فهم يمتلكون قدرات أخرى لا علاقة لها بالإعلام كالرقص على تيك توك، أو مشاركة أعمالهم اليومية مع آلاف المتابعين المتعطشين لمشاهدة تصرف واحد ربما يكون نوع كوب القهوة الذي اختاره ذلك المشهور.
إن واقع حال المناسبات الإعلامية اليوم لا يسعى إلى تطوير المهنة أو تقديم رؤى استراتيجية جديدة، بل أصبح أشبه بمساحات إعلانية مدفوعة للشركات والجهات الرسمية، والوقت المتبقي منها مجرد مسرح واسع للعلاقات العامة، يعج بالابتسامات المزيفة والتكريمات المختلقة، بينما يظل جوهر الإعلام الحقيقي مغيبا إلى حد كبير، فالقضايا المطروحة ليست تلك التي تهم المواطن أو تلامس هموم المجتمع، بل تلك التي تناسب خطط الجهات والشركات التي تملك قاعدة كبيرة من المسوقين لها من المشاهير، بحيث يتم توجيه النقاش نحو ما يخدم الجهات وليس ما يخدم الإنسان.
وحتى لو تناولت بعض تلك المناسبات تطوير الإعلام وصناعة مستقبله، فإن الحديث ينحصر فيما أصبحت تقدمه شركات التقنية العالمية لتطوير أدوات الإعلام والمنصات الاجتماعية، وتطوير عمل الاتصال المؤسسي بما يخدم الجهات والشركات، وفرص الاستثمار في الإعلام الرقمي، وكيفية تحسين أداء الحملات الإعلانية، لكن المفاهيم العميقة للإعلام المتعلقة بدوره الرقابي والمعرفي وتأثيره على العقول وتشكيل الوعي وعلى تطوير مجالات الحياة وتحسين الخدمات العامة، وأهمية تعزيز شخصية الصحفي الحقيقي الذي يمكنه القيام بهذا الدور، لا تُناقش بالشكل المطلوب، لأن التركيز على تطوير الأذرع الإعلامية للجهات أهم، وتعزيز الحملات الترويجية أهم.
لم يعد الإعلام اليوم بحاجة إلى مزيد من الفعاليات الشكلية، ذات الأهداف الترويجية والمصالح الخاصة بجهات دون غيرها، بل إلى مراجعة جذرية لدوره في المجتمع، كما أنه ليس بحاجة إلى منصات براقة تعج بالمؤثرين، بل إلى منصات تحمل فكرا حقيقيا، ومحتوى يحترم عقول الجمهور ويساهم في تشكيل وعيهم، ليس مجرد مناسبات يتكرر فيها الضيوف والعناوين والوجوه، في حين لا يتغير شيء في واقع الإعلام.
إن الصحافة الجادة تعاني من تراجع حاد، والمؤسسات الإعلامية تعاني، والمحتوى الجيد يُدفن تحت ركام الترفيه السطحي، بينما المؤتمرات والمنتديات لا تزال مشغولة بمناقشة الفرص الواعدة للإعلام في العصر الرقمي، دون أن يدرك القائمون عليها، أن الإعلام الحقيقي ليس بحاجة إلى مزيد من الفرص، بل بحاجة إلى استعادة دوره المفقود.
فغياب المؤسسات الإعلامية الرصينة، التي يجب أن تواكب خطط الدولة، وتأخذ حيزا حقيقيا في المشاركة التنموية؛ يقف عائقا أمام مفهوم الإعلام المسؤول، ويمنح الأرضية لبروز ظواهر تعتمد على النفعية الشخصية، وتضع الوطن في آخر قوائم الاهتمام، والمعني هنا بكل صراحة مرتدي عباءة الإعلام، الذين ليس لهم في هذه المهنة لا ناقة ولا جمل ممن يسمون بـ«المشاهير»، والذين بكل أسف تصدروا المشهد فيما يعقد من مؤتمرات وتجمعات إعلامية، وامتهنوا التسلق على تلك المؤسسات، الأمر الذي ينعكس بالسلب على المدى القريب والمتوسط على الصورة العامة للمجتمع والوطن في آن واحد.
وبعد أن كان الإعلام هو مرآة المجتمع، أصبحت المناسبات الإعلامية اليوم مرآة للجهات الحكومية والخاصة وعدد ممن يصفون أنفسهم إعلاميين، وها هي اليوم تتوسع في إعطاء المساحات لمن يصفون أنفسهم بالمؤثرين ليتحدثوا عن دورهم في تشكيل الوعي على منصات السخرية الاجتماعية، وتزيد من الجوائز المختلقة وتختتم فعاليتها ببيانات عامة تلمع صور المنظمين، دون أن تضيف شيئا للإعلام أو لقضاياه الكبرى، فيما تظل الصحافة الحقيقية تصارع من أجل البقاء في زمن أصبحت فيه الكلمة الأقل تأثيرا هي الكلمة المكتوبة برصانة ودقة وموضوعية.
0 تعليق