أوروبا الجديدة.. استعداد بلا ذعر - الهلال الإخباري

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أوروبا الجديدة.. استعداد بلا ذعر - الهلال الإخباري, اليوم الاثنين 7 أبريل 2025 10:17 مساءً

د. خالد راشد الزيودي*

عندما يدعو الاتحاد الأوروبي مواطنيه بشكل واضح وصريح إلى الاستعداد لمواجهة أزمات محتملة عبر تخزين المواد الغذائية والماء والأدوية والاحتياجات الأساسية، فإن هذه الدعوة ليست مجرد إجراء روتيني بسيط أو احتياطي عابر، بل هي رسالة سياسية واستراتيجية كبرى تعكس حجم التحولات والتغيرات الجذرية التي يشهدها العالم اليوم، وتحديداً في المنظومة الأمنية والسياسية الأوروبية التي ظلت لعقودٍ طويلة تعتمد على ضماناتٍ أمنيةٍ مستقرةٍ، أساسها التحالف المتين مع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو).
الاتحاد الأوروبي الذي اعتادت شعوبه عقوداً من الاستقرار والهدوء، يجد نفسه اليوم أمام واقعٍ متغيرٍ بسرعة، يفرض عليه التخلي عن ردود الفعل العشوائية، ويدفعه إلى تبني مقاربة أكثر استباقية وجدية لمواجهة المخاطر المتزايدة من كل حدب وصوب. هذه الاستراتيجية التي أطلقتها المفوضية الأوروبية قبل أيام، تضع المواطن في قلب المشهد، وتحمّله مسؤولية مباشرة في تعزيز قدرته على الصمود، لمواجهة أزمات قد تنجم عن توترات جيوسياسية، أو كوارث طبيعية مرتبطة بالتغير المناخي، أو حتى تهديدات حديثة هجينة ومعقدة.
هذه الخطوة التي أعلنتها المفوضية الأوروبية، والمتمثلة بإطلاق استراتيجية «اتحاد التأهب» في مارس/ آذار 2025، تعبّر بوضوح عن واقع جديد تعيشه أوروبا. إذ يُعد التركيز الأوروبي المكثف على تعزيز الجاهزية المدنية والعسكرية بمثابة اعتراف ضمني بأن النظام الدولي الحالي دخل مرحلة من التقلبات الاستراتيجية الكبيرة التي تستوجب استعدادات استباقية غير مسبوقة. ولعلّ إشارة الاتحاد الأوروبي إلى ضرورة تعزيز قدرات المؤسسات الحيوية في مختلف المجالات، كالمدارس والمستشفيات والاتصالات، تؤكد جدية المخاوف من احتمالات حدوث أزمات واسعة النطاق قد تمتد لتشمل مختلف جوانب الحياة الأوروبية.
لكن ما يزيد من أهمية هذه الخطوة هو توقيتها، فقد جاءت بالتزامن مع تحذيرات حادة وواضحة أطلقها الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، من أن أوروبا قد تتعرض بالفعل لهجوم روسي جديد بحلول عام 2030، في إشارة مباشرة إلى مدى ارتفاع منسوب الخطر في البيئة الأمنية الأوروبية، خصوصاً بعد الصراع الدائر في أوكرانيا الذي كشف بوضوح هشاشة الأوضاع الأمنية الأوروبية.
وإذا أضفنا إلى ذلك ما أورده تقرير «نينيستو» الذي شدد على ضرورة تغيير أوروبا الكامل لمنظومتها الأمنية واستراتيجيتها الدفاعية، من خلال تنسيق أعمق بين الدول الأعضاء والانتقال من مجرد إجراءات فردية لكل دولة إلى استراتيجية موحدة منسقة، يتضح حجم القلق الأوروبي من عدم كفاية الترتيبات الأمنية السابقة في ضمان أمن أوروبا المستقبلي.
هذه التحولات الاستراتيجية الأوروبية لا تمرّ من دون ملاحظةٍ دولية، بل إن دول العالم الأخرى باتت تراقب بتركيزٍ شديد ما يحدث في أوروبا، خصوصاً أن الخطوة الأوروبية الأخيرة تُعتبر تحولاً بارزاً في نمط العلاقة التاريخية بين أوروبا والولايات المتحدة، وهي العلاقة التي كانت تشكل عماد المنظومة الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إن مجرد تلميح الاتحاد الأوروبي بأن الضمانات الأمنية التقليدية لم تعدْ كافية، وأن أوروبا قد تضطر إلى تحمّل مسؤولياتها الأمنية الذاتية بشكلٍ أوسع، يعني بوضوح أن التحالف التاريخي الأمريكي-الأوروبي بدأ يدخل في مرحلة تحولٍ جديدةٍ وغير مسبوقة، قد تؤدي إلى إعادة رسم خريطة التوازنات الدولية بشكل جوهري.
وعلى الرغم من ذلك، لا تعني هذه الاستراتيجية الجديدة أن أوروبا تخلّت عن شراكتها مع الولايات المتحدة أو أن تحالف الناتو انتهى دوره. لكنها تعني بشكل واضح أن أوروبا بدأت تعيد تقييم اعتمادها الكامل على الحليف الأمريكي، خصوصاً في ظل تصاعد التوترات مع روسيا والصين، وتزايد الصراعات الجيوسياسية العالمية التي باتت تتطلب من أوروبا أن تكون أكثر استقلالية وأكثر جاهزية.
إن إنشاء مركز أزمات موحّد، وإجراء تدريبات مشتركة دورية، وتعزيز قدرات الاستشراف والتنبؤ بالمخاطر، هي كلها إجراءات تؤكد أن أوروبا باتت مقتنعة أن المستقبل قد يحمل معه أزمات غير تقليدية وأكثر تعقيداً من سابقاتها. كما يعكس ذلك إدراكاً أوروبياً بأن الصراعات القادمة لن تكون بالضرورة عسكرية تقليدية فقط، بل قد تمتدّ لتشمل الهجمات السيبرانية، والكوارث الطبيعية الناتجة عن التغير المناخي، والأزمات الاقتصادية المفاجئة التي قد تعصف بالتكتل بأكمله.
ومن هنا، يجب فهم الدعوة الأوروبية الجديدة للمواطنين بأنها دعوة للاستعداد الواعي وليس للذعر. فأوروبا لا تسعى لإثارة الهلع أو الخوف، بل لتكريس ثقافة التأهب ضمن نسيجها الاجتماعي والسياسي، استعداداً لمواجهة تحديات مرحلة جديدة من التحولات الاستراتيجية العالمية الكبرى، لأن هذه الخطوات قد تكون مؤشراً مهماً على تغيراتٍ أوسع في العلاقات الدولية والتحالفات الاستراتيجية القائمة. فالتحالف الأمريكي-الأوروبي، الذي ظل قائماً منذ عقود، قد يشهد في المستقبل المنظور تحولات عميقة تعيد ترتيب قواعد اللعبة العالمية، وتفرض واقعاً أمنياً وسياسياً جديداً يختلف عما كان سائداً منذ الحرب العالمية الثانية.
لذلك، فإن الرسالة الأوروبية واضحة تماماً: استعدوا جيداً، ولكن لا داعي للذعر، لأن العالم بأسره قد دخل بالفعل مرحلة جديدة من عدم اليقين الاستراتيجي التي تتطلب أعلى مستويات التأهب والوعي الاستراتيجي.

* باحث دكتوراه في إدارة الأزمات والمخاطر

[email protected]

أخبار ذات صلة

0 تعليق